الموثق المرخص في جدة: ضمانات الثقة والشرعية

يعتبر المبلغون والشهود والخبراء والضحايا من الركائز الأساسية في مكافحة الجريمة وتحقيق العدالة الناجزة، لأنهم يشكلون مصدرا حيويا للكشف عن المعلومات التي تقود الأجهزة الأمنية والقضائية إلى الوقوف على حقائق ومجريات الجرائم بمختلف أنواعها. و لاشك أن التبليغ عن الجرائم يُشكِّل مظهرا من مظاهر المساهمة الشعبية في تحقيق العدالة الجنائية، إذ يُعد من الوسائل التي تمكن السلطات العامة من العلم بالجريمة وجمع أدلتها والقبض على مرتكبيها  ، إذ قد يحول التبليغ عن الجريمة دون وقوعها، وكذلك تفادي النتائج الضارة التي تترتب عنها ، الأمر الذي يسهم في بناء الثقة والاستقرار في المجتمع، ويؤدي إلى تعزيز روح المواطنة والمشاركة الفعالة في مكافحة الجريمة ، وذلك من خلال مساعدة  أجهزة السلطة العامة في القيام بمسؤولياتها على أكمل وجه.

ولكل مواطن الحق في الإبلاغ عن الجرائم التي تشكل تهديدا للاستقرار الاجتماعي، ودرء لكل خطر قد تكون عواقبه وخيمة على مصلحة الجماعة، بل إنّ هذا الحق يرقى إلى مصّاف الواجب عند ممارسته من قبل الموظفين العموميين باعتباره واجبا مهنيا ، كما هو الحال في الجرائم المالية والإدارية.

في كثير من الأحيان قد يتعرض المبلغون والشهود والخبراء للتهديد والضغط من الجهات المتورطة في الجرائم، أو الجهات التي ترى في الإبلاغ تهديدا لمصالحها بصورة مباشرة أو غير مباشرة . لذا تعمل مختلف الأنظمة العالمية على إيجاد السبل والآليات الكفيلة بحمايتهم من الإجراءات التعسفية والانتقامية. وليست الحماية مجرد مسألة أخلاقية، بل هي ضرورة قانونية واجتماعية لضمان حسن سير العدالة والحفاظ على سلامة المجتمع، كما تعد آلية هامة نحو التشجيع على المبادرة في الإبلاغ، و المساهمة في تعزيز الشفافية والنزاهة، على اعتبار أن الشهادات و المعلومات المقدمة قد تكون حاسمة في اتخاذ جهاز العدالة قرارات عادلة ومنصفة.

وتجدر الإشارة إلى أن التدابير القانونية لإرساء هذه الحماية وتكريسها على أرض الواقع تتباين بحسب الأنظمة القضائية في العالم، وبحسب الموارد المتاحة، و يمكن القول بشكل عام، أن هذه التدابير تعتبر أداة مهمة لتعزيز العدالة وكسر حلقة الخوف التي تمنع أفراد المجتمع من التعاون مع السلطات لكشف الجرائم.

وفي هذا السياق جاء نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا الصادر بمقتضى مرسوم ملكي م/148 وتاريخ 8/8/1445ه، الموافق 18/02/2024م ليضيف لبنة جديدة في تجويد النظام القضائي السعودي، عبر إرساء تدابير هامة ترمي إلى الرفع من ثقافة التبليغ في المجتمع وتنمية حس المسؤولية الوطنية لدى الأفراد. وقد شمل النظام كل الإجراءات والضمانات القانونية الكفيلة بإرساء حماية فعالة للمبلغين والشهود والخبراء والضحايا، والتي تماثل ما يجري به العمل في الأنظمة المتقدمة. ومن أهم هذه التدابير حماية هوية الشاهد أو المبلغ أو الضحية عن الجريمة ومنع وقوع أي تهديدات أو انتقامات ضدهم. كما شمل عقوبات  صارمة ضد  من يقترفون أي انتهاكات ضد المبلغين .ومن أجل تحقيق هذه الغاية  نص النظام على آليات التعاون والتنسيق بين الشهود والمبلغين والجهات الأمنية والقضائية لضمان توفير الحماية الكافية والمتابعة اللازمة لضمان تحقيق العدالة.

كما يحظر النظام  اتخاذ أي إجراء تعسفي وإنهاء عقد الموظف بسبب بلاغه أو اتخاذ أي قرار إداري يغير من مركزه القانوني أو الإداري يترتب عليه الانتقاص من حقوقه أو حرمانه منها أو تشويه مكانته أو سمعته، ويحظر أيضا  اتخاذ أية إجراءات أو دعاوى أو عقوبات تأديبية وتدابير سلبية أخرى، وعلى الجهة المتخصصة حال تلقيها وقوع أي حالة من الإجراءات الوظيفية المشار إليها أن تتخذ اللازم لتوفير الحماية للمبلغ والشاهد والخبير بالتنسيق مع الجهة المعنية.

برنامج حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا

يُنشأ وفق أحكام النظام برنامج خاص في النيابة العامة يطلق عليه برنامج حماية المبلِّغين والشهود والخبراء والضحايا، وتحدد اللائحة الهيكل التنظيمي للبرنامج وإدارته ومهماته والاختصاصات المنوطة به، وآلية الصرف عليه. وتتمتع إدارة البرنامج -وفقاً لأحكام النظام- بصلاحية قبول المبلِّغين والشهود والخبراء والضحايا في البرنامج وتحديد نوع الحماية المقدمة لهم ومدته، في حين تشير المادة السادسة إلى موافقة النائب العام -بناءً على توصية من إدارة البرنامج ووفقاً لمبدأ المعاملة بالمثل- على طلبات السلطات الأجنبية المختصة التي تتلقاها اللجنة الدائمة لطلبات المساعدة القانونية في وزارة الداخلية في شأن توفير الحماية لأي مبلِّغ، أو شاهد أو خبير أو ضحية في إقليم المملكة وفقاً لأحكام النظام.

وفي هذا الإطار يجوز للنائب العام حسب المادة الثامنة من النظام في حال توفر ما يبعث على الاعتقاد بإمكان تعرّض المبلِّغ أو الشاهد أو الخبير أو الضحية لخطر وشيك، توفير الحماية له دون موافقته، لمدة لا تزيد على 30 يوماً، ويجوز للنائب العام -عند الاقتضاء-زيادة هذه المدة، كما  تضمنت المادة السابعة من النظام  ضرورة تقديم طلب مسبب بتوفير الحماية علاوة على  توصية من الجهة الرقابية أو من جهة الضبط أو من جهة الاستدلال أو من جهة التحقيق أو من المحكمة بناءً على المعلومات المتوافرة حول مسوغات توفير الحماية.

يُقدم طلب الحماية إلى إدارة البرنامج، وعليها عند دراسته النظر إلى مجموعة من العوامل التي أشارت إليها المادة التاسعة من النظام ، والمتعلقة  أساسا بمدى مناسبة إدراج الشخص المطلوب حمايته في البرنامج، بما في ذلك التاريخ الجنائي إن وجد، والتقييم النفسي، وطبيعة الخطر الذي يهدد أمن الشخص المطلوب حمايته وكذلك نوع وجسامة الفعل المتعلق بالجريمة ذي العلاقة بطلب الحماية، و قدرة الشخص المطلوب حمايته وأقاربه على التكيّف مع برنامج الحماية المقرر له.ثم الحلول البديلة لحماية الشخص المطلوب حمايته دون قبوله بالبرنامج.

وتفيد المادة العاشرة من النظام في حال الموافقة على طلب الحماية، تحدد إدارة البرنامج إجراءات وآليات الحماية اللازمة ومدتها، وتشعر الجهة المقدمة للطلب والشخص المطلوب حمايته بالموافقة خلال 3 أيام من تاريخ تقديم الطلب. وفي حال الرفض، تشعر إدارة البرنامج الجهة المقدمة للطلب والشخص المطلوب حمايته. ويجب أن يكون الرفض مكتوباً ومسبباً، كما يجوز للجهة مقدمة طلب الحماية أو للشخص المطلوب حمايته التظلم مباشرة أمام النائب العام من قرار رفض توفير الحماية وعلى النائب العام البت في التظلم خلال 10 أيام من تاريخ تقديمه، ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً وغير قابل للطعن فيه أمام أي جهة قضائية.

وقد ألزمت المادة الثانية من النظام  جهات الرقابة والضبط والتحقيق في الجرائم المشمولة بأحكام النظام  عند الاقتضاء أو بناء على طلب بإخفاء هوية المبلِّغ أو الشاهد أو الخبير أو الضحية- في مراسلاتها ومحاضرها وجميع وثائقها، هوية كل منهم وعنوانه بشكل يحول دون التعرف عليه.والتعاون مع المحكمة بما يكفل أداء الشهود لشهادتهم دون تأثير أو تأخير.

التدابير التي تتخذها هيئة المحكمة

أكد النظام ضرورة اتخاذ المحكمة ما تراه من تدابير خاصة أثناء إجراءات التقاضي لحماية المبلِّغ، أو الشاهد، أو الخبير، أو الضحية في حال توفر ما يبعث على الاعتقاد بإمكان تعرّض أي منهم لخطر.

كما اشتملت التدابير ضرورة منع مشاهدة الشاهد أو الخبير أثناء حضوره إلى المحكمة للإدلاء بشهادته أو لتقديم خبرته، أو حتى أثناء دخوله إلى المحكمة، أو مغادرته لها . وقد عمل النظام لحمايتهم من خلال استخدام وسائل التقنية مثل الاتصال المرئي والمسموع للاستماع للشهادة عن بُعد، وللمحكمة عند الاقتضاء استخدام تقنية تغيير الصوت والصورة لحماية المشمولين بالنظام، فضلاً عن الاستعانة بإدارة البرنامج لإنفاذ التدابير.

في سياق متصل، بيّنت مقتضيات النظام أنه على المحكمة -عند الاقتضاء- سماع شهادة الشهود ومناقشة الخبراء في أي من الجرائم المشمولة بأحكام النظام بمعزل عن المتهم ومحاميه، في حين يبلَّغ المتهم أو محاميه بما تضمنته الشهادة وتقرير الخبرة دون الكشف عن هوية من أدلى بهما.

في المقابل يسمح النظام للمحكمة في حالات معينة بالكشف عن هوية المشمول بالحماية إذا رأت أن هناك ضرورة لممارسة حق الدفاع، وكانت في الوقت نفسه شهادة الشاهد أو إفادة الخبير وسيلة الإثبات الوحيدة في القضية، شريطة توفير أنواع الحماية اللازمة المنصوص عليها في المادة (الرابعة عشرة) من النظام، وذلك بعد التنسيق مع إدارة البرنامج.

في المقابل، تخفي المحكمة – عند الاقتضاء – أسماء الشهود في صك الحكم القضائي، فيما تحدد اللائحة حالات الإخفاء الوجوبي.

 تحديد أنواع  الحماية

نصت المادة الثانية عشرة من النظام أن على إدارة البرنامج -بالتنسيق مع الجهات المعنية- اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقاية المشمول بالحماية من الإصابة الجسدية، وضمان صحته وسلامته وتكيّفه الاجتماعي، طوال فترة الحماية المقررة له، مع مراعاة حقوقه وحرياته، وعدم تقييدها إلا بالقيود الضرورية وفقاً لأحكام النظام.
كما نصت المادة الرابعة عشرة على أنواع الحماية التي يتمتع بها المشمول بالحماية وهي في جملتها تنصب على الحماية الأمنية، بما في ذلك حماية مسكنه و اتخاذ الإجراءات الكفيلة بسلامة تنقله ، والعمل على إخفاء هويته وبياناته الشخصية،   ومنحه وسائل الإبلاغ الفوري عن أي خطر يتهدد سلامته  ،كما  يتم توفير دعم نفسي واجتماعي للشهود والضحايا والمساعدة في إعادة تأهيلهم.

وفي بعض الحالات يتم توفير إقامة بديلة للمشمول بالحماية أو مساعدته ماليا في حالة تعطيله عن الكسب ، أو غير ذلك من أنواع الحماية التي ترى إدارة البرنامج أنها مناسبة ووفقا لما تحدده اللائحة.

وإذا تعرض المشمول بالحماية بموجب أحكام النظام للاعتداء، تتحمل الدولة كلفة علاجه متى كان الاعتداء للأسباب التي قررت الحماية من أجلها، ولإدارة البرنامج الرجوع على الأشخاص الذين ألحقوا الضرر بالمشمول بالحماية بالتكاليف التي تحملتها الدولة، وفقاً للإجراءات النظامية.

التزامات المشمول بالحماية

حسب المادة الحادية عشرة من النظام ، وفي حال الموافقة على طلب الحماية، تحدد إدارة البرنامج الالتزامات تقع  على عاتق  المشمول بالحماية، وتتمثل في الالتزام بإجراءات أنواع الحماية المقدمة له ، وضرورة التنسيق والتعاون مع الجهات الأمنية والقضائية فيما يخص  جميع الطلبات والمعلومات  المتعلقة  بالجريمة محل الحماية، والامتناع  عن الأنشطة التي قد تضر به أو بأمن الإدارة الأمنية.


الحصانة من المتابعة

يتيح نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا السعودي حصانة ضد تحريك أي دعوى مدنية أو جزائية بسبب الإبلاغ ما لم يكن كيدياً، كما يتمتع الشاهد بالحصانة ما لم يثبت عدم صحة شهادته أو تزويرها ، وتمتد الحماية إلى الخبير.

يبدأ مفعول الحماية من وقت صدور قرار من الجهة المتخصصة بالموافقة عليها، وتنقضي بطلب من المستفيد منها أو بقرار من الجهة ذاتها، ولا يجوز إلغاء الحماية إذا كانت دواعيها قائمة ما لم يطلب المشمول بها خطياً الاستغناء عنها أو يظهر عدم التزاماته بتعليماتها أو إدلائه عمداً بمعلومات خاطئة للجهة المتخصصة، أو ارتكابه لجريمة أو رفضه التعاون معها أو المحكمة ناظرة القضية أو مع النيابة العامة أو هيئة الرقابة ومكافحة الفساد.

دور المحامي

لقد تضمن نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء السعودي العديد من الإجراءات وجوانب الحماية التي تقتضي تكليف محامي للدفاع والمؤازرة، وذلك من أجل الدفاع عن حقوق الأطراف وتحقيق الحماية المنشودة، وفي سبيل ذلك يقع على عاتق   المحامي التحقق من أن الإجراءات القانونية تتم بشكل سليم في ظل مراعات الضمانات التي تتيحها المحاكمة العادلة، من خلال مراقبة سير العملية القانونية بشكل دقيق لضمان احترام حقوق الشهود والمبلغين والضحايا وتطبيق القانون.

وفي هذا السياق يقع على عاتق المحامي التحضير الجيد لملف القضية بجمع الأدلة وإعداد الاستجوابات والتحضير للجلسات القضائية بشكل مهني يضمن حقوق الطرف الذي يمثله، كما يقوم بالتواصل مع الجهات الأمنية وعلى رأسها النيابة العامة في صياغة طلب الحماية بالشكل القانوني المطلوب متضمنا الشروط التي نص عليها النظام، علاوة على ذلك يمكن مؤازرة الضحايا في إعداد البيانات والشهادات وتقديم المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق بهم. وفي ذات السياق يعبر عن مصالح الضحايا أو الشهود ويوجههم الوجهة القانونية السليمة، و كذا التنسيق مع الخبراء المختصين في مجالات مثل الطب الشرعي وعلم النفس للحصول على التقارير الفنية التي تدعم حالة الشهود والمبلغين والضحايا.

وإذا كانت عملية إخفاء الهوية والبيانات الشخصية إحدى أهم الركائز في يقوم عليه نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء و الضحايا، فإن دور المحامي هو الحرص على ألا تنحرف هذه الإجراءات عن مسارها والغاية التي سنت من أجلها، لتصبح أداة للمس بحقوق الدفاع ، ولهذا نجد أن هناك ثمة خيطا رفيعا يجمع بين مقتضيات الحماية وحقوق الدفاع المنصوص عليها في نظام الإجراءات الجنائية. ولذلك يمكن القول إن المحامي بمثابة الحارس القانوني والمراقب الحقوقي المسؤول على مدى احترام القواعد والمعايير القانونية.